#مقال | حكمة شافي الأسعد: البحتري الناقد!

وضّح البحتريُّ، في موضعين من شعره، موقفَه من قضية اللفظ والمعنى، منتصراً للَّفظ. وفي سياق الموضعين نصّب البحتريُّ امرأَ القيس قدوةً له، فيشكو إليه حال الشعر في زمنه، أو يأخذه مثالاً داعماً لموقفه النقدي
في شكواه لامرئ القيس يخصّ البحتريُّ اللفظَ بالشكوى، فقد أُصيبَ اللفظُ بالركاكة، كما يرى:

يا امرأَ القيسِ لو رأيتَ حَبِيْكَ
الشِّعرِ يُغْذَى بماءِ لفظٍ رَكِيكِ

لَبَكيتَ الدِّماءَ للأدبِ الغضِّ
بفَيضٍ منَ الدُّموعِ سَفوكِ

(هل نجا البحتري في بيتَيه من ركاكة اللفظ التي يشكو منها؟ هل البيتان صالحان لتقييم امرئ القيس للشكوى؟ أو هما دليلان عند امرئ القيس على صدق الشكوى وعلى صدق ركاكة اللفظ؟)

في الموضع الآخر يقف البحتريُّ موقفاً شديداً ضد المنطق في الشعر، مستدلاً بامرئ القيس ذي القروح على صحة موقفه؛ فلم يكن امرؤ القيس (بوصفه قدوة الشعراء) يلهج بالمنطق ولم يكن يعرفه. وفي الموضع نفسه يؤكد البحتريُّ على موقفه الناصر للَّفظ والشكل، فاللفظ هو حلْيُ المعنى، والحليُ إذا كان نحاساً فلن يُريك الحُسْنَ الذي يُريكَهُ الذهَب، فاللفظ يجب أن يكون ذهَباً لا نحاساً ليستحقّ أن يكون حليةً للمعنى:

كلَّفتمونا حدودَ مَنْطِقِكمْ
في الشِّعر يكفي عن صِدْقِهِ كَذِبُهْ

ولم يكنْ "ذو القُروحِ" يلهجُ
بالمنطقِ؛ مانوعُهُ وما سببُهْ

والشِّعْرُ لَمْحٌ تكفي إشارتُهُ
وليس بالهَذْرِ طُوِّلتْ خُطَبُهْ

واللّفظُ حلْيُ المعنى، وليس يُريكَ
الصُّفْرُ حُسْناً يُرِيْكَهُ ذَهَبُهْ

والبحتري، في ظنّي، يرى أنّ المنطق يسلب الشكلَ لمعان الذهب فيكتفي بلمعان النحاس (الصُّفْر)، وهذا من الركاكة التي يشكوها لأميره في الشعر (والبحتري في هذه القصيدة يهجو أميراً آخرَ يحاول الشعر أيضاً، وهو عبيد الله بن عبد الله بن طاهر)

يريد البحتري باستحضار أستاذه الكبير، امرئ القيس، وبتحجيم دور المنطق في الشعر، العودةَ إلى أصول الشعر قبل تأثير علوم الكلام فيه، معبّراً عن إعجابه الكبير، غير المباشر، بلفظ امرئ القيس، مع رغبةٍ نقديةٍ في أن يكون الشعرُ إشارياً لمّاحاً مُقْتَصَداً.

يظهر البحتريُّ في هذين الموضوعين ناقداً منشغلاً بالقضايا النقدية التي كانت مثار نقاشٍ في عصره، خصوصاً بعد كلّ ما أثاره أبو تمام من حركة نقدية عامة حول طريقته الشكلية في الشعر. وفي الموضعين نقف أمام مسألة مهمة حول قدرة الشعر على حمْل الموقف النقدي والتعبير عنه.